فصل: ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ أبي الفداء **


  ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة

فيهـا فـي المحـرم توفـي ناصـر الديـن محمد بن مجد الدين محمد بن قرناص دخل بلاد سيس لكشف الفتوحات الجهائية فتوفي هناك رحمه الله تعالى ودفن بتربة هناك للمسلمين‏.‏

وفيهـا فـي صفـر توفـي بـدر الديـن محمـد بن إبراهيم بن الدقاق الدمشقي ناظر الوقف بحلب وفي أيام نظره فتح الباب المسدود الذي بالجامع بحلب شرقي المحراب الكبير لأنه سمع أن بالمكان المذكـور رأس زكريـا النبي صلى الله على نبينا وعليه وسلم فارتاب في ذلك فأقدم على فتح البـاب المذكـور بعـد أن نهى عن ذلك فوجد باباً عليه تأزير رخام أبيض ووجد في ذلك تابوت رخام أبيض فوقه رخامة بيضاء مربعة فرقعت الرخامة عن التابوت فإذا فيها بعض جمجمة فهـرب الحاضـرون هيبـة لهـا ثـم رد التابـوت وعليـه غطـاؤه إلـى موضعـه وسـد عليه الباب ووضعت خزانة المصحف العزيز على الباب وما أنجح الناظر المذكور بعد هذه الحركة وابتلي بالصرع إلى أن عض لسانه فقطعه ومات‏.‏

نسأل الله أن يلهمنا حسن الأدب‏.‏

وفيها في أواخر ربيع الأول قدم إلى حلب العلامة القاضي فخر الدين محمد بن علي المصري الشافعي المعروف بابن كاتب قطلوبك واحتفل به الحلبيون وحصل لنا في البحث معه فوائد‏.‏

منهـا قولهـم إذا طلـب الشافعـي من القاضي الحنفي شفعة الجار لم يمنع على الصحيح لأن حكم قال‏:‏ وهذا مشكل‏.‏

فإن حكم الحاكم ينفذ ظاهراً بدليل قوله صلى الله عليه وسلم فإنما أقطع له قطعة من نار وأما كون القاضي لا ينقض هذا الحكم فتلك سياسة حكيمة‏.‏

ومنها قولهم‏:‏ يقضي الشافعي الصلاة إذا اقتدى بالحنفي علم أنه ترك واجباً كالبسملـة يعنـي على صحيح ولا يقضي المقتدي بحنفي افتصد ولم يتوضأ‏.‏

قال‏:‏ وهذا مشكل فإن الحنفي إذا اقتصـد ولـم يتوضـأ وصلـى فهـو متلاعـب علـى اعتقـاده فينبغي أن يقضي الشافعي المقتدى به وإذا ترك البسملة فصلاته صحيحة‏.‏

عنده فينبغي أن لا يقضي الشافعي المقتدى به وفيه نظر‏.‏

ومنها قولهم في الصداق أن قيمة النصف غير نصف القيمة هذا معروف‏.‏

ولكنه قال قول الشافعي وغيره أن الزوج فـي مسائـل التشطيـر يغرمهـا نصـف القيمـة لا قيمـة النصف مشكل وكانوا بدمشق لا يساعدونني على استشكاله حتى رأيته لإمام الحرمين وذلك لأن القيمة خلف لما تلف وإنما يستحق نصف الصداق فليغرمها قيمة النصف لا نصف القيمة‏.‏

ومنها‏:‏ أنه ذكر أن الشيخ صدر الدين لما قدم من مصر قال‏:‏ لقد سألني ابن دقيق العيد عن مسألة أسهرته ليلتين وصورتها‏:‏ رجل قال لزوجته‏:‏ إن ظننت بي كذا فأنت طالق فظنت به ذلك قالوا أتطلق ومعلوم أن الظنى لا ينتج قطيعاً فكيف انتج هنا القطعي‏.‏

قال العلامة فخر الدين كنت يومئذ صبياً فقلت‏:‏ ليس هذا من ذلك فإن المعنى إن حصل لك الظن بكذا فأنت طالق والحصول قطعي فينتج قطعياً فقال صدر الدين بهذا أجبته‏.‏

ومنها قولهم‏:‏ إذا ادعي على امرأة في حبالة رجل أنها زوجته فقالت طلقتني تجعل زوجته ويحلف أنه لم يطلق‏.‏

رأى في هذه المسألة ما يراه شيخنا قاضي القضاة شرف الدين بـن البارزي‏.‏

وهو أن المراد بذلك امرأة مبهمة الحال‏.‏

ومنها‏:‏ إنما انعقد السلم بجميع ألفاظ البيع ولم ينعقد البيع بلفظ السلم لأن البيع يشمل بيـع الأعيـان وبيـع مـا فـي الذمـة فصـدق البيـع عليهما صدق الحيوان على الإنسان والفرس فإن الحيوان جنـى لهذيـن النوعيـن وكذلك البيع جنس لهذين النوعين بخلاف السلم فانه بيع ما في الذمة فلا يصدق على بيع العين كالنوع لا يصدق على الجنس ولذلك تسمعهم يقولون‏:‏ الجنس يصدق على النوع ولا عكس‏.‏

ومنها قولهم‏:‏ يسجد للسهو بنقل ركن ذكري إن أريد به أنه ترك الفاتحة مثلاً في القيام وقرأها في التشهد سهواً فهذا يطرح غير المنظوم وإن فعل ذلك عمداً بطلت صلاته‏.‏

وإن أريد غير ذلك فما صورته فأجاب إن صورة المسألة أن يقرأ الفاتحة في القيام ثم يقرأها في التشهد مثلاً فوافق ذلك جوابنا فيها‏.‏

ومنها أنهم قالوا خمس رضعات تحرم بشرط كون اللبن المحلوب في خمس مرات على الصحيح ثـم ذكـروا قطـرة اللبـن تقـع فـي الحـب وهـذا التناقـض‏.‏

فقـال‏:‏ لا تناقـض فالمـراد بقطرة اللبن في الحب إذا وقعت تتمة لما قبلها وهذا حسن مهم فإن شيخنا لفراره من مثل ذلك شرط أن يكون اللبن المغلوب بما شيب به قدراً يمكن أن يسقى منه خمس دفعات لو انفرد عن الخليط ولا شك أن هذا قول ضعيف والصحيح عند الرافعي‏:‏ أن هذا لا يشترط والتناقض يندفع بمـا تقدم من جواب العلامة فخر الدين‏.‏

وفيها وأظنه في ربيع الآخر ورد الخبر إلى حلب بأن نائب الشام تنكز قبض على علم الدين كاتب السر القبطي الأصل بدمشق وولى موضعه القاضي شهاب الدين يحيـى ابـن القاضـي عماد الدين إسماعيل بن القيسرانـي الخالـدي وعـذب النائـب العلـم المذكـور وعاقبـه وصـادره وبينه وبين العلامة فخر الدين المصري قرابة فلحقه شؤمه ولفحه سمومه وسافر مـن حلـب خائفاً من نائب الشام فلما وصل دمشق رسم عليه مدة وعزل عن مدارسه وجهاته ثم فك الترسيم عنه وبعد موت تنكز عادت إليه جهاته وحسنت حاله ولله الحمد‏.‏

وفيهـا فـي رجب ورد الخبر بوفاة القاضي شهاب الدين محمد ابن المجد عبد الله قاضي القضاة الشافعي بدمشق صدمت بغلته به حائطاً فمات بعد أيام وخلق الناس موضع الصدمة مـن ذلك الحائط بالخوق ومن لطف الله به أن السلطان عزله بمصر يوم موته بدمشق وعزل القاضي جلال الدين محمد القزوبني عن قضاء الشافعية بمصر ونقله إلى القضاء بالشام موضع ابن المجد ورسم بمصادرة ابن المجد فلمـا مـات صـودر أهلـه وكـان ابـن المجـد فيـه خيـر وشـر ودهـاء ومروءة قلت‏:‏ لا ييأسن مخلط من رحمة الله العفـو دليل هذا قولـه وآخـرون اعترفوا وولي بعد جلال الدين قضاء الديار المصرية قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز ابن قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة وأحسن السيرة وعزل القاضي برهان الدين بن عبد الحق أيضاً عن قضاء الحنفية بالديار المصريـة وولـى مكانـه القاضـي حسـام الديـن الغـوري قاضـي القضاة ببغداد كان الوافد إلى مصر عقيب الفتن الكائنة بالمشرق لموت أبي سعيد‏.‏

وفيها في رجب أيضاً باشر القاضي بهاء الدين حسن ابن القاضي جمال الدين سليمان بن ريـان مكان والده نظر الجيوش بحلب في حياة والده وبسعيه له‏.‏

وفيها في رجب مات بحلب فاضل الحنفية بها الشيخ شهاب الدين أحمد بن البرهان إبراهيم بن داود ولي قضاء عزاز ثم نيابة القضاء بحلب مدة ثم انقطع إلى العلم وله مصنفات وولى ابنه داود جهاته‏.‏

وفيها في رمضان توفي القاضي محي الدين يحيى بن فضل الله كاتب السر بمصر وقد ناف على التسعين وله نظم ونثر‏.‏

وفيهـا أخـرج الخليفـة أبـو الربيـع سليمـان المستكفـي بالله من مكانه بمصر عنفاً إلى قوص وقلت في ذلك مضمناً من القصيدة المشهورة لأبي العلاء بيتاً وبعض بيت‏:‏ أخرجوكم إلى الصعيـد لعـذر غير مجد فـي ملتـي واعتقـادي لا يغيركـم الصعيـد وكونوا فيه مثل السيوف فـي الأغمـاد وفيها في رمضان أيضاً ورد الخبر إلى حلب بوفاة العلامة زين الدين محمد ابن أخي الشيخ صـدر الديـن ابـن الوكيل المعروف بابن المرحل من أكابر الفقهاء المفتين المدرسين الأعيان المتأهلين للقضاء بدمشق‏.‏

أدينـة تندب أم سمته أم عقله الوافر أم عملـه فـاق علـى الأقران في جده فمن رآه خاله عمه وتولى تدريس الشامية البرانية مكانه القاضي جمال الدين يوسف بن جملة فمات ابن جملة‏.‏

قيل إنه ما ألقى فيها إلا درساً أو درسين لاشتغاله بالمرض‏.‏

ووليها بعده القاضي شمس الدين محمد بان النقيب بعد أن نزل عن العادلية‏.‏

وفيها في ثالث شوال ورد الخبر بوفاة العلامة شيخ الإسلام زين الدين محمد ابن الكناني علم الشافعية بمصر وصلي عليه بحلب صلاة الغائب كان مقدماً في الفقه والأصـول معظمـاً فـي المحافل متضلعاً من المنقول ولولا انجذابه عن علماء عصـره وتبهـه علـى فضـلاء دهـره لبكـى على فقده أعلامهم وكسرت له محابرهم وأقلامهم ولكن طول لسانه عليهم هون فقده لديهم‏.‏

قلت‏:‏ فجعت بكتبانها مصـر فمثلـه لا يسمـح الدهـر يا زين مذهبه كفى أسفاً إن الصدور بموتك انسـروا ما كان من بأس لو أنك بال - علماء برأيها البحر وفيها في شوال أيضاً رسم ملك الأمراء بحلب الطنبغا بتوسيـع الطـرق التـي فـي الأسـواق اقتداء بنائب الشام تنكز فيما فعله في أسواق دمشق كما مر ولعمري قد توقعت عزله عن حلب لما فعل ذلك فقلت حينئذ‏:‏ رأى حلبا بلداً داثراً فزاد لإصلاحها حرصه وقاد الجيوش لفتـح البلـاد ودق لقهر العدا فحصه وما بعد هذا سوى عزله إذا أتم أمر بدا نقصه وفيهـا فـي عاشـر شـوال ورد الخبـر بوفاة الفاضل المفتي الشيخ بدر الدين محمد ابن قاضي بارين الشافعي بحماة كان عارفاً بالحاوي الصغير ويعرف نحواً وأصولاً وعنده ديانة وتقشف وبيني وبينـه صحبـة قديمـة فـي الاشتغال على شيخنا قاضي القضاة شرف الدين ابن البارزي وسافر مرة إلى اليمن رحمه الله ونفعنا ببركته قلت‏:‏ فجعت حماة ببدرها بل صدرها بـل بحرهـا بـل حبرهـا الغـواص اللـه أكبر كيف حال مدينة مات المطيع بها ويبقى العاصي وفيـه ولـي قضـاء الحنفية بحماة جمال الدين عبد الله بن القاضي نجم الدين عمر بن العديم وكان شاباً أمرد‏.‏

بعد عزل القاضي تقي الدين بن الحكيم فإن صاحب حماة آثر أن لا ينقطع هذا الأمر من هذا البيت بحماة لما حصل لأهل حماة من التأسف على والده القاضي نجم الدين وفضائله وعفته وحسن سيرته رحمه الله تعالى وجهز قاضي القضاة ناصر الدين محمد ابـن قاضي القضاة كمال الدين عمر بن العديم صاحبنا شهاب الدين أحمد بن المهاجر إلى حماة نائبـاً عـن القاضـي جمال الدين المذكور إلى حين يستقل بالأحكام وخلع صاحب حماة عليهما في يوم واحد‏.‏

وفيه ورد الخبر أن الأمير سيف الدين أبا بكر النابيري قدم من الديار المصرية على ولاية بر وفيها في ذي القعدة توفي بدمشق العلامة القاضي جمـال الديـن يوسـف بـن جملـة الشافعـي معزولاً عن الحكم من سنة أربع وثلاثيـن وسبعمائـة كـان جـم الفضائـل غزيـر المـادة صحيـح الاعتقاد عنده صداقة في الأحكام وتقديم للمستحقين وكان قد عطف عليه النائب وولـاه تدريس مدارس بدمشق‏.‏

قلت‏:‏ بكت المجالس والمدارس جملة لك يا ابن جملة حين فاجأك الردى فاصعد إلى درج العلى واسعد فمن خدم العلوم جزاؤه أن يصعـدا وفيها في ذي القعدة توفي شيخي المحسن إلي ومعلمي المتفضل علي قاضي القضاة شرف الديـن أبـو القاسـم هبـة اللـه ابـن قاضـي القضـاة نجم الدين أبي حمد عبد الرحيم ابن قاضي القضاة شمس الدين أبي الطاهر إبراهيم بن هبة الله بن المسلم بن هبة الله بن حسان بن محمد بن منصور بن أحمد بن البارزي الجهني الحموي الشافعي علم الأئمة وعلامة الأمة تعين عليـه القضاء بحماة فقبله وتورع لذلك عن معلوم الحكم مـن بيـت المـال فمـا أكلـه بـل فـرش خـده لخدمة الناس ووضعه ولم يتخذ عمره درة ولا مهمـازاً ولا مقرعـة ولا عـزر أحـداً بضـرب ولا خراق ولا أسقط شاهداً على الإطلاق هذا مـع نفـوذ أحكامـه وقبـول كلامـه والمهابـة الوافـرة والجلالة الظاهرة والوجه البهي الأبيض المشرب بحمره واللحية الحسنة التي تملأ صدره والقامة إقامة والمكارم العامة والمحبة العظيمة للصالحين والتواضع الزائد للفقراء والمساكين أفنى شبيبتـه فـي المجاهـدة والتقشـف والـأوراد وأنفـق كهولتـه فـي تحقيـق العلـوم والإرشـاد وقضـى شيخوخته في تصنيف الكتب الجياد وخطب مرات لقاء الديار المصرية فأبى وقنع بمصيره واجتمـع لـه مـن الكتـب مـا لـم يجتمع لأهل عصره وكف بصره في آخر عمره فولى ابن ابنه مكانه وتفرع للعلوم والتصـرف والديانـة وصـار كلمـا علـت سنـه لطـف فكـره وجـاد ذهنـه وشـدت الرحال إليه وسار المعول في الفتاوى عليه واشتهرت مصنفاته في حياته بخلاف العادة ورزق في تصانيفه وتآليفه السعادة‏.‏

فمنهـا فـي التفسيـر‏:‏ كتـاب البستـان فـي تفسيـر القران مجلدان‏.‏

وكتاب روضات جنات المحبين اثنا عشر مجلداً‏.‏

ومنها في الحديث‏:‏ كتاب المجتبى مختصر جامع الأصول وكتاب المجتبى وكتاب الوفـا فـي أحاديـث المصطفـى وكتـاب المجـرد مـن السند وكتاب المنضد شرح المجرد أربع مجلـدات‏.‏

ومنهـا فـي الفقـه‏:‏ كتـاب شرح الحاوي المسمى بإظهار الفتاوى من أعوار الحاوي وكتاب تيسير الفتاوي من تحرير الحاوي وهما أشهر تصانيفه وكتاب شرح نظم الحاوي أربع مجلدات‏.‏

وكتاب المغنى مختصـر التنبيـه وكتـاب تمييـز التعجيـز‏.‏

ومنهـا فـي غيـر ذلـك‏:‏ كتـاب توثيـق عـرى الإيمـان في تفضيل حبيب الرحمن والسرعة في قراءات السبعة والدراية لأحكام الرعاية للمحاسبي وغير ذلك‏.‏

حدثني رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة وسبعمائة قال‏:‏ رأيت الشيخ محي الديـن النـوري بعـد موتـه في المنام فقلت له أما تختار في صوم الدهر فقال‏:‏ فيه اثنا عشر قولاً للعلماء فظهر لشيخنا أن الأمر كما قال وإن لم تكن الأقوال مجموعة في كتاب واحد وذلك أن في صـوم الدهـر فـي حـق مـن لـم ينـذر ولـم يتضـرر بـه أربعـة أقـوال‏:‏ الاستحبـاب وهـو اختيـار الغزالـي وأكثر الأصحاب‏.‏

والكراهة وهو اختيار البغوي صاحب التهذيب والإباحة وهو ظاهر نص الشافعي لأنه قال‏:‏ لا بأس به‏.‏

والتحريم وهو اختيار أهل الظاهر حملاً لقوله صلى الله عليه وسلم فيمن صام الدهر لا صام ولا أفطر على أنه دعاء عليه‏.‏

وفي حق من نذر ولـم يتضـرر بـه خمسـة أقـوال‏:‏ الوجـوب وهـو اختيـار أكثـر الأصحـاب‏.‏

والاستحباب والإباحة والكراهة والتحريم‏.‏

وفي حق من يتضرر بـأن تفوتـه السنـن أو الاجتمـاع بالأهـل ثلاثـة أقـوال‏:‏ التحريـم والكراهـة والإباحة ولا يجيء الوجوب ولا الاستحباب فهذه اثنا عشر قولاً في صوم الدهر وهذا المنام من كرامات الشيخ محي الدين والقاضي شرف الدين رضي الله عنهما والله أعلم‏.‏

وأخبرني حين أجازني أنه أخذ الفقه من طريق العراقيين عن والده وجده أبي الطاهر إبراهيم وهو عن القاضي عبد الله بن إبراهيم الحموي عن القاضـي أبـي سعـد ابـن أبـي عصـرون الموصلي عن القاضي أبي علي الفارقي عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي عن القاضي أبي الطيب الطبري عن أبي الحسن الماسرجسي عن أبي الحسن المروزي‏.‏

ومن طريق الخراسانيين عن جده المذكـور عـن الشيـخ فخـر الديـن عبـد الرحمـن بـن عساكـر الدمشقي عن الشيخ مطب الدين مسعود النيسابوري عن عمر بن سهل الدامغاني عن حجة الإسلـام أبـي حامـد الغزالـي عـن إمـام الحرميـن أبـي المعالـي الجويني عن والده أبي محمد الجويني عن الإمام أبي بكر القفال المروزى عن أبي إسحاق المروزي المذكور عن القاضي أبي العباس بن شريح عن أبي القاسم الأنماطي عن أبي إسماعيل المزني والربيع المرادي كلاهما عن الإمـام الأعظم أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي وهو أخذ عن إمام حرم الله مسلم بن خالد المزني عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهم وعن إمام حرم رسول الله صلـى اللـه عليـه وسلم مالك عن نافع عن ابن عمر وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم عن نبينا سيد المرسلين محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليه وعلى آله و أصحابه أفضل صلواته عدد معلوماته وله نظم قليل فمنه ما كتب به إلى صاحب حماة يدعوه إلى طعام العرس مندوب إليه وبعض الناس صـرح بالوجـوب فجبراً بالتناول منـه جريـاً على المعهود فـي جبـر القلـوب ومـن نثـره الـذي يقـرأ طـرداً وعكسـاً قولـه‏:‏ ‏(‏سـور حمـاة بربهـا محـروس‏)‏ ولمـا بلغني خبر وفاته كتبت كتابـاً إلـى ابـن ابنه القاضي نجم الدين عبد الرحيم ابن القاضي شمس الدين إبراهيم ابن قاضي القضاة شرف الدين المذكور‏.‏

صورته وينهي أنه بلغ المملوك وفاة الحبر الراسخ بل انهداد الطود الشامخ وزوال الجبل الباذخ الذي بكته السماء والـأرض وقابلـت فيـه المكـروه بالنـدب وذلـك فرض فشرقت أجفان المملوك بالدموع واحترق قلبه بين الضلوع وساواه فـي الحـزن الصـادر والوارد واجتمعت القلوب لما تم لمأتم واحد فالعلوم تبكيه والمحاسن تعزى فيه والحكم ينعاه والبر يتفداه والأقلام تمشي على الرؤوس لفقده والمصنفات تلبس حداد المداد من بعده‏.‏

ولمـا صلـي عليـه يـوم الجمعـة صلـاة الغائب بحلب اشتد الضجيج وارتفع النشيج وعلت الأصـوات فـلا خـاص إلا حـزن قلبـه ولا عـام إلا طـار لبـه فإنـه مصـاب زلـزل الـأرض وهدم الكرم المحض وسلب الأبدان قواها ومنع عيون الأعيان كراها ولكن عزى الناس لفقده كـون مولانا الخليفة من بعده فإنه بحمد الله خلف عظيم لسلف كريم وهو أول من قابل هذا الفادح القادح بالرضا وسلم إلى الله سبحانه فيما قضى فإنه سبحانه يحيي ما كانت الحياة أصلح ويميت إذا كانت الوفاة أروح وقد نظم المملوك فيه مرثية أعجزه عن تحريرها اضطرام صدره وحمله على تسطيرها انتهاب صبره وها هي‏:‏ برغمي أن بينكم يضام ويبعـد عنكـم القاضـي الإمام سراج للعلوم أضاء دهـراً علـى الدنيـا لغيبتـه ظلام تعطلـت المكـارم والمعالـي ومات العلم وارتفع الطغام عجبت لفكرتي سمحت بنظم أيسعدنـي علـى شيخـي نظـام وأرثيـه رثـاء مستقيمـاً ويمكننـي القوافـي والكلام ولو أنصفته لقضيت نحبي ففي عنقي له نعم جسام حشـا أذنـي دراً ساقطته عيوني يوم حم له الحمام لقـد لـؤم الحمام فإن رضينا بمـا يجنـي فنحـن إذاً لئام ألا يا عامنا لا كنت عاماً فمثلك ما مضى في الدهر عائم أتفجعنا بكتانـي مصـر وكان به لساكنها اعتصام وتفتك بابـن جملـة فـي دمشـق ويعلوها لمصرعه القتام ولما قام ناعيه استطارت عقول النـاس واضطـرب الأنـام ولو يبقى سلونا من سواه فإن بموته مات الكرام أألهـو بعدهـم وأقر عينا حلال اللهـو بعدهـم حـرام فيا قاضي القضاة دعاء صب برغمى أن يغيرك الرغام ويا شرف الفتاوى والدعـاوى على الدنيا لغيبتك السلام ويا ابن البارزي إذا برزنا بثوب الحزن فيك فلا نلام سقـى قبراً حللت به غمام من الأجفان إن بخل الغمام إلـى مـن ترحل الطلاب يوماً وهـل يرجـى لذي نقص تمام ومن للمشكلـات وللفتـاوى وفصل الأمر إن عظـم الخصـام وكان خليفة في كل فـن وعينـاً للخليفـة لا تنـام ألا يا بابه لا زلت قصداً لأهل العلم يغشاك الزحام فـإن حفيـد شيـخ العصـر بـاق يقل به على الدهر الملام وفي خير الأنام لكم عزاء وليـس لساكـن الدنيـا دوام أنا تلميذ بيتكم قديماً بكـم فخـري إذا افتخر الأنام وإن كنتم بخير كنـت فيـه ويرضيني رضاكم والسلام لكـم منـي الدعـاء بكـل أرض ونشر الذكر ما ناح الحمام

  ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وسبعمائة

فيها في المحرم توفي بمصر شيخنا قاضي القضاة فخر الدين عثمان بن زين الدين علي بن عثمان المعروف بابن خطيب جبرين قاضي حلب وابنه كمال الدين محمد وذلك أن الشناعات كثرت عليه فطلبه السلطان على البريد إليه فحضر عنده وقـد طـار لبـه وخـرج وقد انقطع قلبه وتمرض بمصر مدة وأراحه الله بالموت من تلك الشدة وحسب المنايا أن يكـنّ أمانيـاً ولقد كان رحمه الله فاضـلاً فـي الفقـه والأصـول والنحـو والتصريـف والقـراءات مشاركـاً فـي المنطق والبيان وغيرهما وله الشرح الشامل الصغير ويدل حله إياه على ذكاء مفرط وله شرح مختصر ابن الحاجب في الأصول وشرح البديع لابن الساعاتي في الأصول أيضاً وفرائض نظم وفرائض نثر ومجموع صغير في اللغة وغير ذلك كان رحمه الله سريع الغضب سريع الرضا من هو فخر الدين عثمان فـي مراحـم الله وإحسانه مات غريباً خائفاً نازحـاً عـن أنـس أهليـه وأوطانـه وبعـض هـذي فيه ما يرتجى لـه به رحمة ديّانه فقـل لشانيه ترفق ففي شانـك مـا يغنيك عن شانه ورأيت مكتوباً بخطه هذه الكلمات وكنت سمعتها من لفظه قبـل ذلـك وهـي‏:‏ الالتفـات إلـى الأسبـاب شـرك فـي التوحيد والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل فمن جعل السبب موجباً فقد أخطأ ومن محاه ولم يجعل له أثراً فقد أخطأ ومن جعل السبب سبباً والمسبب هو الفاعل فقد أصاب‏.‏

ومولده رحمه الله بمصر في العشر الأواخر من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وستين وستمائة‏.‏

وفيها في العشر الأوسط من ربيع الآخر توفي السيد الشريف بدر الدين محمد بن زهرة الحسيني نقيب الأشراف وكيل بيت المال بحلب ومن الاتفاق أنه مات يوم ورود الخبر بعـزل ملك الأمراء علاء الدين الطنبغا عن نيابة حلب وكان بينهما شحناء في الباطن‏.‏

قلت‏:‏ قـد كـان كـل منهما يرجو شفا أضغانه فصاركـل واحد مشتغـلاً بشانـه كان السيد رحمه اللـه حسـن الشكـل وافـر النعمـة معظمـاً عنـد النـاس شهمـاً ذكيـاً‏.‏

وجـده الشريف أبو إبراهيم هو ممدوح أبي العلاء المعري كتب إلى أبي العلاء القصيدة التي أولها‏:‏ غير مستحسن وصال الغوانـي بعـد ستيـن حجـة وثمان ومنها‏:‏ كل علم مفرق في البرايا جمعته معرة النعمان فأجابه أبو العلاء بالقصيدة التي أولها‏:‏ عللاني فإن بيض الأماني فنيت والظلام ليس يفاني أو منها‏:‏ يا أبا إبراهيم قصر عنك ال - شعر لما وصفت بالقرآن وفيها في العشر الأول من جمادى الأولى قدم الأمير سيف الدين طرغاي إلى حلب نائباً بها وسر الناس بقدومه وأظهروا الزينة وصحبته القاضي شهاب الدين أحمـد بـن القطـب كاتـب السر مكان تاج الدين ابن الزين خضر المتوجه إلى مصر صحبة الأمير علاء الدين الطنبغـا وكان رنك المنفصل جوكانين ورنك المتصل خونجا فقال بعض الناس في ذلك‏:‏ كم أتى الدهر بطرد وبعكس وببدع وفيها في السابع والعشرين من جمادى الأولى ورد الخبر إلى حلب بوفاة قاضي القضاة جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني قاضي دمشق بها كان رحمه الله إمام في علم المعاني والبيان له فيه مصنفات جامعة متقنة وله يد في الأصولين ويحل الحاوي وكان كبيـر القـدر واسع الصدر ولي أولاً خطابة دمشق ثم قضاءها ثم قضاء مصر ثم قضاء دمشـق حتـى مات بها سامحه الله تعالى‏.‏

وبلغنـي أن بينـه وبيـن الإمـام الرافعـي قرابـة وقـرب العهد بسيرته يغني عن الإطالة وبنى على النيل دارا قيل بما يزيد على ألف الف درهم فأخذت منه ثم أخرج إلى دمشق قاضياً كما تقدم‏.‏

وفيها في جمادى الآخرة ورد الخبر إلى حلب بوفاة الشيخ بدر الدين أبي اليسر محمد ابن القاضي عز الدين محمد ابن الصائغ الدمشقي بها كان نفعنا الله به عالماً فاضلاً متقللاً من الدنيا زاهداً جاءته الخلعة والتقليد بقضاء دمشق امتنع أتم امتناع واستعفى بصدق إلى أن أعفي فمن يومئذ حسن ظن الناس به وفطن أهل القلم وأهل السيف لجلالة قدره‏.‏

قلت‏:‏ ما قضاء الشام إلا شرف ولمـن يتركـه أعلـى شـرف يا أبا اليسـر لقـد أذكرنـا فعلك المشكور أفعال السلـف وفيـه ورد الخبـر أن الأميـر عـلاء الدين الطنبغا وصل من مصر إلى غزة نائباً بها سبحان من يرفع جرت بينه وبين نائب الشام الأمير سيف الدين تنكز شحناء اقتضت نقلته من حلب وتوليته بعدها غزة فإن نائب الشام متمكن عند السلطان رفيع المنزلة‏.‏

وفيهـا فـي أوائـل رجـب توفـي بمعـرة النعمـان ابن شيخنا العابد إبراهيم بن عيسى بن عبد السلام كان من عباد الأمة ويعرف الشاطبية والقراءات وله يد طولى في التفسير وزهادته مشهورة كان أولاً يحترف بالنساجة ثم تركها وأقبل على العبادة والصيام والقيـام ونسـخ كتـب الرقائـق وغيرها فأكثر ووقف كتبه على زوايا وأماكن وهو من أصحاب الشيخ القدوة مهنا الفوعي نفعنا الله ببركتهما وكان داعياً إلى السنة بتلك البلاد وتوفي بعده بأيام الشرف حسين بن داود بن يعقوب الفوعي بالفوعة وكان داعياً إلى التشيع بتلك البلاد‏.‏

قلت‏:‏ وقام لنصر مذهبه عظيماً وحدد ظفـره وأطـال نابـه تبارك من أراح الدين منه وخلص منه أعـراض الصحابـه وفيه ورد الخبر بوفاة الشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد الله المعروف بابن المهاجـر الحنفـي بحماة نائباً عن قاضيها جمال الدين عبد الله بن العديم حسبما تقدم ذكره كان فاضلاً في النحو والعروض وله نظم حسن ولهج في آخر وقته بمدائح الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفيه ورد الخبر إلى حلب أن الشيخ تقي الدين علي بن السبكي تولى قضاء القضاة الشافعية بدمشق المحروسة بعد أن حدث لخطيب بدر الدين محمد ابن القاضي جلال الدين نفسه بذلك وجزم به وقبل الهناء فقال فيه بعض أهل دمشق‏:‏ قد سبك السبكي قلب الخطيب فعيشـه مـن بعدهـا مـا يطيـب وفيه طلب القاضي جمال الدين سليمان بن ريان على البريد من حلب إلى دمشق لمباشرة نظر الجيوش بالشام واستمر بدمشق إلى أن نكب تنكز كما سيأتي فعزل بالتاج إسحاق ثم حضر إلى حلب وأقام بداره بالمقام وفيها في شعبان قدم الأمير الفاضل صلاح الدين يوسف الدواتدار شاداً بالمملكة الحلبية‏.‏

وفيها في رمضان ورد الخبر أن الأمير سيف الدين أبا بكر البانيري باشر النيابة بقلعة الرحبة وهو الذي كان تولى تجديد عمارة جعبر كما تقدم فقال فيه بعض الناس‏:‏ يا باذلاً في جعبر جهده مـا خيب السلطان مسعاكا عوضك الرحبة عن ضيـق مـا قاسيت قد أفرحنا ذاكـا فضاجع البق وناموسها ولولا ضجيعاك لزرناكا وفيه شرع نائب الشام تنكز في الرجوع من متصيده بالمملكة الحلبية وكان قد حضر إليها من شعبـان ومعـه صاحـب حمـاة الملـك الأفضـل وحريـم وحظايـا وحشـم وحمـام ولحق الفلاحين والرعية بذلك كلفة وضرر كبير واجتمع نائب الشام وصاحب حماة على إعادة بـذر الديـن محمد بن علي المعروف بابن الحمص رامي البندق المشهور إلى منزلته من الرماية بعد أن كان قد أسقط على عادتهم وأسقطوا من كان أسقطه واجتمعت أنا بابن الحمص المذكور بحلب مسألتـه أن يرينـي شيئـاً من حذقة في البندق فرمى إلى حائط فكتب عليه بالبندق ما صورته محمد بن علي بخط جيد ثم أمر غلامه فصار الغلام يرمي بندقاً إلى الجو وهو يتلقاه فيصيبه في سرعة على التوالي فجاء من ذلك بالعجب العجيب‏.‏

وفيه نادى مناد في جامع حلب وأسواقها وقدامه شاد الوقف بدر الدين بتليك الأسندمري من أمراء العشرات بما صورته معاشر الفقهاء والمدرسين والمؤذنين وأرباب وظائف الدين قد برز المرسوم العالي إن كل من انقطع منكم عن وظيفته وغمز عليه يستأهل ما يجرى عليـه فانكسـرت لذلـك قلـوب الخاص والعام وعظم به تألم الأنام وطهر مشد الوقف المذكور عن بغض وعناد لأهل العلم والذين فوقع منه يوم عيد الفطر كلمة قبيحة أقامت عليه الناس أجمعيـن وعقد له بدار العدل يوم العيد مجلس مشهود وأفتينا بتجديد إسلامه وعزله وضربـه وهـو ممدود‏.‏

ونودي عليه في الملأ جزاء وفاقاً وقطعنا أن لحوم العلماء مسمومة اتفاقاً ولولا شفاعة الشافعي فيه لدخل نار مالك بما خرج من فيه ولو كان براً لما خاض هذا البحر ولجمع قلبه ومذبحه بين الفطر والنحر وبالجملة فقد ذاق مرارة القهر والقسر فإن نداءه الـذي انكسـر بـه القلب انقلب به الكسر ‏)‏‏.‏

وفيهـا فـي تاسـع شـوال وصـل إلـى حلب قاضي القضاة زين الدين عمر بن شرف الدين محمد بن البلقيائي المصري الشافعي وباشر الحكم من يومه وخرج النائب والأكابر لتلقيه وسر به الناس لما سمعوا من ديانته بعد شغور المنصب نحو عشرة أشهر من حاكم شافعي‏.‏

وفيها حج الأمير سيف الدين بشتك الناصري من مصر وأنفق في الحج أموالاً عظيمة وكان صحبتـه على ما بلغنا ستمائة راوية تكلم الناس في القبض عليه عند عوده بمدينة الكرك فما أمكن ذلك ودخل مصر وصعد القلعة فتلقاه السلطان بالحسنى‏.‏